فصل: الرابع‏:‏ مشهد الحكمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد **


 فائدة‏:‏ أنزه الموجودات وأشرفها عرش الرحمن جل جلاله

أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتاً وقدراً وأوسعها‏:‏ عرش الرحمن جل جلاله، لذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنات وأشرفها وأنورها وأجلها لقربها من العرش إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير‏.‏ وخلق الله القلوب وجعلها محلاًّ لمعرفته ومحبته وإرادته فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبته وإرادته‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم‏}‏‏(‏الآية‏:‏ 60 من سورة النحل‏.‏‏)‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم‏}‏‏(‏الآية‏:‏ 27 من سورة الروم‏.‏‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏‏(‏الآية‏:‏ 11 من سورة الشورى‏.‏‏)‏، فهذا من المثل الأعلى وهو مستو على قلب المؤمن فهو عرشه‏.‏

وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها والتعلق بها، فضاق وأظلم وبعد من كماله وفلاحه حتى تعود القلوب على قلبين‏:‏ قلب هو عرش الرحمن، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل مغموم في الحال‏.‏

وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا‏:‏ فما علامة ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله‏"‏، والنور الذي يدخل القلب إنما هو آثار المثل الأعلى، فلذلك ينفسح وينشرح، وإذا لم يكن فيه معرفة الله ومحبته فحظه الظلمة والضيق‏.‏

 فائدة‏:‏ عظمته سبحانه وتعالى

تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد كله، أزِمَّة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومردّها إليه، مستوياً على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالماً بما في نفس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه‏.‏

فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه‏.‏ فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أولياءه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، أنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين‏.‏ ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته، ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم‏.‏ والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير‏.‏

فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جميلاً، هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل سواه، وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها وداؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت، ولم تنتفع بحياتها‏.‏

 فائدة‏:‏ ‏"‏لا بد في قبول المحل لما يوضع فيه أن يفرغ من ضده‏"

قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها‏.‏ فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره‏.‏ ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه‏.‏

وسر ذلك‏:‏ أن صفاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه‏.‏ كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته‏.‏ فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان‏.‏ ولهذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يَرِيَهُ خير له من أن يملأ شعراً‏"‏ فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات، ونحوها، وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً فتعدته وجاوزته إلى محل سواه‏.‏

كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها ولا تلج فيه، لكن تمر مجتازة لا مستوطنة، ولذلك قيل‏:‏

نزه فؤادك من سوانا تلقنا ** فجنابنا حل لكل منزه

والصبر طلسم لكنز وصالنا ** من حل ذا الطلسم فاز بكنزه

وبالله التوفيق

 فائدة‏:‏ الكلام في ‏"‏ألهاكم التكاثر‏"‏‏:‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ ألهاكم التكاثر‏}‏ ‏(‏الآية الأولى من سورة التكاثر‏.‏‏)‏ إلى آخرها‏.‏

أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد، وكفى بها موعظة لمن عقلها‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألهاكم‏}‏ أي شغلكم على وجه لا تعذرون فيه‏.‏ فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه‏.‏ فإن كان بقصده فيه فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسلم في الخميصة‏:‏ ‏"‏إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي‏"‏‏(‏رواه الشيخان‏.‏‏)‏ كان صاحبه معذوراً وهو نوع من النسيان، وفي الحديث ‏"‏ فلها صلى الله عليه وسلم عن الصبي‏"‏ أي ذهل عنه، ويقال‏:‏ لَهَا بالشيء‏:‏ أي اشتغل به، ولها عنه‏:‏ إذا انصرف عنه‏.‏

واللهو للقلب، واللعب للجوارح؛ ولهذا يجمع بينهما، ولهذا كان قوله‏:‏ ‏{‏ ألهاكم التكاثر‏}‏ أبلغ في الذم من شغلكم، فإن العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به، فاللهو هو ذهول وإعراض، والتكاثر تفاعل من الكثرة، أي مكاثرة بعضكم لبعض، وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه، وأن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذه التكاثر‏.‏

فالتكاثر كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم، ولا سيما إذا لم يحتج إليه‏.‏

والتكاثر في الكتب‏:‏ التصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها‏.‏

والتكاثر‏:‏ أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره، وهذا مذموم إلا فيما يقرب إلى الله‏.‏

فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات ومسابقة إليها‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ‏:‏ ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت‏"‏‏.

 تنبيه‏:‏ من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه‏:‏

من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه، للعبد ستر بينه وبين الله وبينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس‏.‏

للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه‏.‏

إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها‏.‏

الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم العمر‏.‏

محبوب اليوم يعقب المكروه غدا، ومكروه اليوم يعقب المحبوب غدا‏.‏

أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل الوقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها‏.‏

كيف يكون عاقلا من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة‏.‏

يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين‏:‏ بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه‏.‏

المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه، والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه‏.‏

لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين‏.‏

دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهِمَّة‏.‏ فإن لم تدافعها صارت فعلا‏.‏

 التقوى ثلاث مراتب‏:‏

إحداها‏:‏ حمية القلب والجوارح عن الآثار المحرمات‏.‏

الثانية‏:‏ حميتها عن المكروهات‏.‏

الثالثة‏:‏ الحمية عن الفضول وما لا يعني‏.‏

فالأولى تعطى العبد حياته، والثانية تفيد صحته وقوته، والثالثة تكسيه سروره وفرحه وبهجته‏.‏

غموض الحق حين تذب عنه ** تضل عن الدقيق فهوم قوم

يقلل ناصر الخصم المحق **فتقضى للمجل على المدق

بالله أبلغ ما أسعى وأدركه ** لا بي ولا بشفيع لي من الناس

إذا أيست وكاد اليأس يقطعني ** جاء الرجاء مسرعاً من جانب اليأس

من خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه للنار لم تزل هداياه من الشهوات‏.‏

لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها‏.‏

ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه بضع سنين‏.‏

 إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد‏:‏

 الأول‏:‏ مشهد التوحيد وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏

 الثاني‏:‏ مشهد العدل، وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه‏.‏

 الثالث‏:‏ مشهد الرحمة وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه ورحمته حشوه‏.‏

 الرابع‏:‏ مشهد الحكمة وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدى ولا قضاه عبثاً‏.‏

 الخامس‏:‏ مشهد الحمد وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه‏.‏

 السادس‏:‏ مشهد العبودية وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده، فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه‏.‏

قلة التوفيق وفساد الرأي، وخفاء الحق وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم ولباس الذل، وإهانة العدو وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة وكسف البال‏:‏ تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء، والاحتراق عن النار، وأضداد هذه تتولد عن الطاعة‏.‏

 من معاني الإنصاف له تعالى

طوبى لمن أنصف ربه فأقر بالجهل في عمله والآفات في عمله والعيوب في نفسه والتفريط في حقه، والظلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله وإن لم يؤخذ بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه، فإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربه وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه‏.‏

ونكتة المسألة وسرها‏:‏ أنه لا يرى ربه إلا محسناً، ولا يرى نفسه إلا مسيئاً أو مفرطاً أو مقصراً فيرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوءه من ذنوبه وعدل الله فيه‏.‏

المحبون إذا خربت منازل أحبائهم قالوا سقياً لسكانها‏.‏ وكذلك المحب إذا أتت عليه الأعوام تحت التراب ذكر حينئذ حسن طاعته له في الدنيا وتودده إليه وتجدد ورحمته وسقياه لمن كان ساكناً في تلك الأجسام البالية‏.‏

 الغيرة نوعان

الغيرة غيرتان‏:‏ غيرة على الشيء، وغيرة من الشيء، فالغيرة على المحبوب حرصك عليه، والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه، فالغيرة على المحبوب لا تتم إلا بالغيرة من المزاحم، وهذه تحمد حيث يكون المحبوب تقبح المشاركة في حبه كالمخلوق‏.‏

وأما من تحسن المشاركة في حبه سبحانه فلا يتصور غيره المزاحمة عليه بل هو حسد، والغيرة المحمودة في حقه أن يغار المحب على محبته له أن يصرفها إلى غيره، أو يغار عليها أن يطلع عليها الغير فيفسدها عليه، أو يغار على أعماله أن يكون فيها شيء لغير محبوبه، أو يغار عليها أن يشوبها ما يكره محبوبه من رياء أو إعجاب أو محبة لإشراف غيره عليها أو غيبته عن شهود منته عليه فيها‏.‏

وبالجملة‏:‏ فغيرته تقتضي أن تكون أحواله وأعماله وأفعاله كلها لله، وكذلك يغار على أوقاته أن يذهب منها وقت في غير رضا محبوبه، فهذه الغيرة من جهة العبد، وهي غيرة من المزاحم له المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبه‏.‏ وأما غيرة محبوبه عليه فهي كراهية أن ينصرف قلبه عن محبته إلى محبة غيرة بحيث يشاركه في حبه، ولهذا كانت غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرم الفاحشة ما ظهر وما بطن؛ لأن الخلق عبيده وإماؤه فهو يغار على إمائه كما يغار السيد على جواريه- ولله المثل الأعلى- ويغار على عبيده أن تكون محبتهم لغيره بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها‏.‏

من عظم وقار الله في قلبه أن يعصيه وقره الله في قلوب الخلق أن يذلوه‏.‏

إذا علقت شروش ‏(1)‏ المعرفة في أرض القلب نبتت فيه شجرة المحبة، فإذا تمكنت وقويت أثمرت الطاعة فلا تزال الشجرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها‏.‏

أول منازل القوم‏:‏ {‏اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا‏ ‏} (الأحزاب: 42) ، وأوسطها‏:‏ ‏{هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} (الأحزاب 43)‏.‏ وآخرها‏:‏ {تحيتهم يوم يلقونه سلام‏} (الأحزاب: 44 ).‏

أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها، فإن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبدان، وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر مر‏.‏

ارجع إلى الله واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك، ولا تشرد عنه من هذه الأربعة فما رجع من رجع إليه بتوفيقه إلا منها، وما شرد من شرد عنه بخذلانه إلا منها، فالموفق يسمع ويبصر ويتكلم ويبطش بمولاه، والمخذول يصدر ذلك عنه بنفسه وهواه‏.‏

مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة ثم أثمرت فأكلت ثمرها وغرست نواها فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه، وكذلك تداعي المعاصي، فليتدبر اللبيب هذا المثال‏:‏ فمن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها‏.‏

ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوك بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه‏.‏

كفى بك عزًّا أنك له عبد ** وكفى بك فخراً أنه لك رب